أعدّ هذه الورقة عشر روابط وجمعيات تمثل عائلات ضحايا الاعتقال والاختفاء القسري والناجين/ات منهما في سوريا، وهي رابطة عائلات قيصر، عائلات من أجل الحرية، تحالف عائلات المختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية-داعش (مسار)، مبادرة تعافي، رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، رابطة “تآزر” للضحايا، حررني، رابطة معتقلي عدرا، الاتحاد العام للمعتقلين والمعتقلات، وعائلات للحقيقة والعدالة. يأتي صدور هذه الورقة بمثابة تتويج لأنشطة المناصرة المستمرة التي تقوم بها هذه الروابط/الجمعيات منذ عام 2021.
يعدُّ الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري من المكونات الجوهرية لنظام القمع والترهيب الذي يفرضه النظام السوري، وغيره من أطراف النزاع في عموم البلاد، ويمثلان أحد الأسباب الرئيسية للجوء والتهجير، كما أنهما عقبة أمام العودة الآمنة والكريمة والطوعية للسوريين/ات إلى وطنهم/ن. وفي جميع النزاعات، يشكل الاختفاء القسري أحد أهم العقبات التي تحول دون إحلال السلام ومن ثم أحد أكبر التحديات التي تعترض سبيل العدالة الانتقالية الحقيقية في المراحل اللاحقة. ولذلك، من شأن معالجة هذه الأزمة في سوريا أن تسهم في إيجاد حل لواحدة من أكثر المشكلات إلحاحاً وصعوبة؛ مشكلة ما تزال تتسبب في مدى هائل من المعاناة التي يكتوي بنارها السوريون/ات في الداخل والخارج.
تهدف هذه الورقة إلى تلخيص موقفنا كمنظمات للناجين/ات ومنظمات لعائلات الضحايا حيال أزمة الاختفاء القسري في سوريا، والتصدي لها عن طريق إنشاء آلية إنسانية دولية مستقلة تُعنى بالكشف عن مصير المختفين/ات قسراً والمعتقلين/ات لدى مختلف أطراف النزاع في البلاد.
:معلومات أساسية
يُعتبر الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري من الملامح المُحدِّدة لجوهر النزاع في سوريا؛ فقد تجاوز عدد المختفين/ات قسراً في سوريا منذ اندلاع النزاع عام 2011، عتبة الـ 100,000 مدني، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان. وعلى الرغم من لجوء جميع أطراف النزاع إلى الاعتقال والإخفاء القسري كأداة أساسية للقمع، كلٌ في مناطق سيطرته، يبقى النظام السوري هو المسؤول عن القسم الأعظم من جرائم الإخفاء القسري. وتقول تقارير الشبكة السورية لحقوق الإنسان إنه في الفترة الواقعة ما بين آذار/ مارس 2011 وآب/ أغسطس 2021 تم إخفاء ما لا يقل عن 102,287 شخصاً من بينهم 2,405 أطفال و5,801 امرأة. وبحسب التقرير فإن النظام السوري مسؤول عن 84.8% من إجمالي حالات الإخفاء القسري التي وقعت خلال تلك الفترة، بينما اعتبر التقرير تنظيم داعش مسؤولاً عن 8.4% وهيئة تحرير الشام عن 2% منها. ويذكر التقرير أيضاً أن فصائل المعارضة المسلحة الأخرى مسؤولة عن 2.5% من مجمل حالات الاختفاء القسري، وأن قوات سورية الديمقراطية مسؤولة عن 2.2% منها.[1]
وفي هذا السياق، من الأهمية بمكان إنشاء آلية دولية خاصة تعمل على الكشف عن مصير الأشخاص الذي أُخفوا قسراً في سوريا، ومعرفة أماكن احتجاز الذين لا زالوا على قيد الحياة منهم/ن قبل ضمان الإفراج عنهم/ن، وتحديد مواقع دفن الضحايا الذين قضوا منهم/ن والتعرف على رفاتهم/ن وتسليمها إلى ذويهم/ن على نحو يحفظ كرامتهم/ن. وينبغي أن تُتخذ كل هذه الخطوات بالتوازي مع كافة الجهود الأخرى الرامية إلى إحلال السلام وإنهاء النزاع ومحاسبة الجناة.
الجهود الدولية ذات الصلة بالاعتقال والاختفاء القسري في سوريا
لقد بُذلت جهود دولية على مدار نحو 10 سنوات لمعالجة قضية الاعتقال والاختفاء القسري في سوريا والتوصل إلى حل لهذه القضية، لكنها باءت جميعاً بالفشل.
فعلى الصعيد الدولي، سعى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى وضع خريطة طريق لحل النزاع الدائر في سوريا من خلال ما يسمى بمسار جنيف وبعض القرارات الصادرة عن مجلس الأمن من قبيل القرار رقم 2130 (2014) والقرار رقم 2254 (2015).[2] لقد تضمنت المبادرات الدولية ومنذ السنوات الأولى للنزاع مطالبات واضحة بالإفراج عن المعتقلين\ات والكشف عن مصير المفقودين\ات والمختفين\ات قسراً – فعلى سبيل المثال، نصَّت الفقرة الرابعة من خطة السلام التي اقترحها “كوفي أنان” المبعوث الدولي إلى سوريا، والمؤلفة من ست نقاط، على الإفراج الفوري عن المعتقلين/ات والكشف عن كافة مراكز الاعتقال وضمان الاتصال الفوري بهم/ن والوصول إليهم/ن.[3]
كذلك لم تفلح محاولات سابقة بذلها فاعلون إقليميون في التوصل إلى نتائج. فعلى المستوى العربي، أرسلت جامعة الدول العربية بعثة مراقبين عرب لمراقبة الأوضاع في سوريا والاطلاع على واقع المعتقلين/ات سنة 2011. ومن ثم قدمت البعثة تقريرها الفني للجامعة العربية التي أصدرت بدورها قراراً يطرح مبادرة لحل الأزمة السورية تضمنت مطالبات بالإفراج عن المعتقلين/ات والكشف عن مصير المختفين/ات قسراً.[4]
وفي عام 2017، استحدثت روسيا وإيران وتركيا مسار أستانا الذي أُنشأت على أساسه مجموعة عمل معنية بالمفقودين/ات والمعتقلين/ات.[5]
ومن جانبه، بذل المجتمع الدولي جهوداً لضمان محاسبة مرتكبي الجرائم الكبرى في سوريا، في حين يشكل الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري -على نحو لا يمكن إنكاره- جريمتين خطيرتين تجب ملاحقتهما قضائياً ومحاسبة مرتكبيهما. وعلى سبيل المثال، وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2016 على إنشاء الآلية الدولية المحايدة والمستقلة للمساعدة في التحقيق وملاحقة الأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة بحسب تصنيف القانون الدولي المرتكبة في الجمهورية العربية السورية منذ آذار/ مارس 2011.[6]
وطيلة 10 سنوات، بَذلت منظمات المجتمع المدني جهوداً جبارة لمواجهة جرائم الإخفاء القسري في سوريا من خلال العمل على الكشف عن مصير المفقودين/ات والإفراج عن المعتقلين/ات ومحاسبة مرتكبي هذه الجرائم – بما في ذلك عبر الجهود المبذولة لمحاسبتهم على أساس الولاية القضائية العالمية في بعض الدول الأوروبية – وذلك بموازاة الجهود الحثيثة التي تبذلها كل من اللجنة الدولية للصليب الأحمر واللجنة الدولية للمفقودين.
ورغم ذلك، أخفقت كل هذه الجهود في التعامل مع الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب كممارسات متفشية – ناهيك عن إخفاقها في إيقافها.
الحاجة إلى آلية دولية
من الواضح أن الوقت قد حان لاتباع نهج جديد؛ فهذا الإخفاق في إحراز أية نتائج على الرغم من الجهود المبذولة منذ وقت طويل على الصعد المحلية والإقليمية والدولية دليل واضح على أن ثمة حاجة إلى البحث عن حلول جديدة بعد أن أثبتت المقاربات الحالية محدوديتها.
وعليه، فإننا كجمعيات تمثل الضحايا والناجين\ات نقترح تشكيل آلية دولية مستقلة ذات طبيعة إنسانية لمواجهة أزمة الاعتقال والاختفاء القسري في سوريا، يكون هدفها إيجاد الحلول حيث فشلت المبادرات الأخرى عن طريق الكشف عن مصير المعتقلين/ات والمختفين/ات قسرياً باستخدام تقنيات متعددة لجمع المعلومات، والإفراج عمن لا يزال حياً منهم/ن، والبحث عن أماكن دفن الموتى منهم واستخراج رفاتهم/ن والتثبت من هويتهم/ن ومن ثم ضمان تسليم رفاتهم/ن إلى ذويهم/ن.
إن من شأن الإفراج عن المعتقلين/ات والكشف عن مصير المختفين/ات قسراً وتسليم رفات الضحايا الذين قضوا إلى عائلاتهم/ن أن يشكل خطوة أولى على طريق إنصاف الضحايا وإعمال حقهم في الكشف عن الحقيقة ومعرفة مصيرهم وتعزيز جهود السلام في سوريا.
إن حجم المشكلة هائل؛ فإذا علمنا أن متوسط حجم الأسرة السورية هو خمسة أفراد،[7] فذلك يعني أن لكل شخص مختفٍ قسراً 12 قريباً/ة على الأقل من الدرجة الأولى (أب وأم وشقيقان/شقيقتان وزوج/زوجة وابنان/ابنتان) يعانون/ين عذاب يومي من جراء عدم معرفتهم/ن بمصير ابنهم/ابنتهم المعتقل/ة أو المختفي/ة، على حد وصف الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي، وتأييداً لما ذهبت إليه المادة (1) من الإعلان المتعلق بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري الذي أكد على أن “الكرب والأسى” اللذين تكابدهما العائلات من جراء حرمانها من معرفة الحقيقة فيما يتعلق بمصير المختفين/ات قسراً ومكان تواجدهم يصل إلى حد عتبة التعذيب بالنسبة لكل من تُرك ليعيش مكتوٍ بنار الأثر المترتب على هذا الاختفاء.[8] وهذا بدوره يقودنا إلى تقدير عدد الضحايا المباشرين للاختفاء القسري بحيث يشمل العدد كلاً من الضحايا وعائلاتهم/ن- بمعنى أن بلوى الاعتقال والاختفاء القسري في سوريا قد ألمَّت بشكل مباشر بما لا يقل عن 1.2 مليون سوري، وهو رقم يتجاوز كثيراً التقديرات المتحفظة والخجولة التي تقدر عددهم فقط بـ 100,000 مختفٍ من المدنيين منذ عام 2011.
إن الكشف عن مصير المختفين قسرياً يعني وضع حد للألم الذي تعيشه آلاف الأسر السورية والسماح لهذه الأسر بالانتقال من حالة الانتظار غير المعلوم إلى حالة الانتظار الطبيعي وحالة الحزن والرثاء الطبيعية.
ومن شأن التصدي لواحد من أشد التحديات استعصاءً على الحل في سوريا أن يشكل خطوة شجاعة نحو إحلال السلام المحتمل المستدام في البلاد. وكذلك من شأن وجود آلية تكشف عن مصير المفقودين/ات والمختفين\ات قسراً أن يضمن عدم تكرار جريمة الإخفاء القسري – فبالإضافة إلى الكشف عن مصير المعتقلين/ات والمختفين/ات قسراً يمكن لهذه الآلية أن تذهب إلى نقطة أبعد مما ذهبت إليه المبادرات السابقة على صعيد توثيق فظاعة جرائم الإخفاء القسري في سوريا، وإيلاء الأولوية لتفكيك منظومة الاعتقال برمتها كشرط مسبق لحل هذا النزاع. ومن شأن ترسيخ جرائم الاعتقال والاختفاء القسري في الذاكرة الجماعية للنزاع السوري أيضاً أن يساعد في منع تكرار حدوثها في المستقبل.
الكيفية التي ستعمل وفقها الآلية المقترحة
ينبغي أن تكون الآلية الدولية المستقلة المقترحة ذات طابع إنساني وولاية عالمية كي تعمل على الكشف عن مصير المختفين/ات قسراً وتحديد أماكن وجودهم/ن وتسليم رفاتهم/ن إلى ذويهم/ن.
وينبغي لهذه الآلية أن تكون دولية لأسباب عملية وقانونية، فمع أن المسؤولية الأساسية في معالجة مشكلة الاختفاء القسري تقع على عاتق الدولة، إلا أنها أيضاً من ضمن مسؤوليات المجتمع الدولي. وبهذا الخصوص، اتخذ المجتمع الدولي عدداً من الخطوات الرامية إلى منع الاختفاء القسري.
ففي 18 كانون الأول/ ديسمبر 1992 تبنى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 47/133 الإعلان العالمي لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، إذ يرى الإعلان أن الاختفاء القسري يقوض سيادة القانون وينتهك أعمق القيم المنبثقة عن حقوق الإنسان ويصفه بأنه جريمة ضد الكرامة الإنسانية إلى جانب اعتباره انتهاكاً لميثاق الأمم المتحدة لا يجوز للدول ارتكابه لأي سبب كان.[9] كذلك يُعتبر الإخفاء القسري جريمة بموجب القانون الدولي الذي ينص على أن الإنسان يتمتع بحق أصيل في الاعتراف به كشخص أمام القانون. واستمر المجتمع الدولي بعد ذلك في جهوده الرامية إلى مكافحة الإخفاء القسري، ففي 20 كانون الأول/ ديسمبر 2006 أقرت الأمم المتحدة الصيغة النهائية للاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، وبحلول عام 2019 كانت 98 دولة قد وقعت على هذه الاتفاقية فيما صادقت عليها 62 دولة.[10] ثم جاء القرار رقم 2474 بشأن الأشخاص المفقودين نتيجة النزاعات المسلحة ليضيف صكاً قانونياً دولياً آخر فيما يتعلق بجريمة الاختفاء القسري.[11]
وحتى في ظل وجود هذه الصكوك ووضعها موضع التنفيذ، ستبقى عملية الكشف عن مصير المفقودين/ات والمختفين/ات طويلة ومعقدة وخاصة في الحالات التي استخدم فيها المرتكبون وسائل متطورة لإخفاء معالم جريمتهم عن طريق إتلاف جثث المخفيين/ات قسراً مما يعقّد عمليات التحقيق (وقد تم ذلك، على سبيل المثال، عن طريق حرق الجثث أو استخدام مادة الكلس أو رمي الجثث في آبار أو حُفَر من قبيل حفرة الهوتة التي استخدمها تنظيم الدولة).[12] لذلك، يقتضي الأمر استخدام تقنيات وأساليب متعددة وتضافر جهود كافة المنظمات والمؤسسات الدولية والمحلية المتواجدة للمساهمة في هذا العمل ضمن إطار دولي موحد. إضافة إلى ذلك، ونظراً لجسامة الأزمة السورية ومستوى تعقيدها فإنه يستحيل أن تتمكن جهة واحدة بمفردها، مهما كانت إمكانياتها، من الاستجابة لهذا الوضع على النحو الكافي، مما يؤكد على الحاجة إلى آلية دولية تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة.
وستساعد الآلية أيضاً في تكثيف الجهود القائمة حالياً والهادفة إلى الكشف عن مصير المختفين/ات قسراً في سوريا، مع تفادي ضياع المعلومات ذات الأهمية الحاسمة في هذا المجال. وسوف يعمل وجود نقطة مرجع مركزية لغايات الكشف عن مصير المختفين/ات على التخفيف من حدة معاناة ذوي المفقودين/ات والمختفين/ات الذين تاهت بهم السبل جراء تعدد المبادرات اللامركزية العاملة على هذه القضية، ناهيك عن اختلاف منهجياتها ومقارباتها. وعليه، فإن هذه الآلية ستكون بمثابة محطة وقوف وحيد بالنسبة لعائلات الضحايا للتقدم بالشكاوى ومتابعة سيرها.
ونحن نأمل أن يعمل إنشاء آلية جديدة على إعادة بناء ثقة الناس في الآليات والمؤسسات القائمة. ومن الأهمية بمكان أن نوضح هنا أنه ليس لدى السوريين/ات في الوقت الراهن مرجعية موحدة أو واضحة مختصة بالشأن السوري
يمكنهم/ن الرجوع إليها للتبليغ عن اختفاء أقاربهم/ن. ويوجد بالمقابل، أربع جهات فاعلة يمكنها توفير الدعم على هذا الصعيد فيما يتعلق بسوريا، وهي:
- اللجنة الدولية للصليب الأحمر؛
- واللجنة الدولية لشؤون المفقودين؛
- والفريق العامل المعني بمسألة الاحتجاز التعسفي؛
- والفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي.
ومع ذلك، لا توجد من بين هذه المؤسسات أية مؤسسة قادرة وحدها على التعامل مع قضية المختفين مما يؤكد من جديد على أهمية وجود آلية دولية تجمع كل هذه الجهود تحت مظلة واحدة. وقد أكدت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، السيدة ميشيل باشيليت، في بيان صدر عنها في مارس/ آذار 2021 تناولت فيه ضرورة إنشاء آلية دولية للكشف عن مصير الأشخاص المفقودين في سوريا.[13]
وبالنظر إلى المستويات التي بلغها الاستقطاب السياسي في سوريا، فلا بد لهذه الآلية أن تكون أيضاً ذات طبيعة إنسانية. إن استقلالية هذه الآلية وولايتها العالمية سيوفران لها القدرة على كسب الثقة وجمع الخبرات والموارد ضمن إطار عمل واحد يقوده لاعبون دوليون لم يقوموا بتنسيق الجهود مسبقاً بالمستوى الكافي. كما سيعمل ذلك على تيسير عملية مشاطرة البيانات مع الآلية والسماح لها بالتواصل مع جميع المسؤولين العامين وسلطات الأمر الواقع، سواء أكان ذلك بصفة مستقلة أم رسمية، من أجل توفير المعلومات عن المختفين/ات قسراً وجمعها بهدف الكشف عن مصيرهم/ن.
الإطار الزمني:
من الأهمية بمكان أن يتم إنشاء هذه الآلية في أسرع وقت ممكن.
يجب على هذه الآلية العمل على الكشف عن مصير المختفين/ات قسراً بينما هم/ن على قيد الحياة وليس الانتظار لحين وفاتهم/ن. إن البحث عن جثث من مات منهم/ن وتحديد هوياتهم/ن وتسليم رفاتهم/ن لأهاليهم/ن سيزداد صعوبة بمرور الوقت بسبب صعوبة جمع بيانات ما قبل الوفاة جراء تحلل الجثث و/أو التلاعب المتعمد أو غير المتعمد بمواقع الدفن. ولكن وفي الوقت ذاته، لن تقل مع مرور الوقت أهمية الحاجة إلى التحقيق لمعرفة مصير المختفين/ات ولا حق الضحايا في معرفة ما جرى، بل ستزداد هذه الأهمية في واقع الأمر. وقد أثبتت التجارب في نزاعات سابقة أن تجاهل هذه المسألة بأكملها يعمل في الواقع على إدامة النزاع. وفي غضون ذلك، ستعتمد عملية البحث عن المختفين والكشف عن مصيرهم اعتماداً كبيراً على الشهادات والذاكرة، وكلا هذين المجالين يخضع لوقت صلاحية محدد، مما يشير مجدداً إلى صفة الاستعجال التي تتخذها هذه القضية في الوقت الحاضر.
وقد تم في الماضي تجاهل مسألة الكشف عن مصير المختفين/ات وحق الضحايا في معرفة الحقيقة أو عدم إيلائهما الأهمية اللازمة عقب انتهاء النزاع مع تعويض الضحايا -بالمقابل- بنوع من المساءلة الشكلية وبعض برامج جبر الضرر وتخليد الذكرى، وذلك بحجة الأهمية الكبرى التي تكتسيها قضايا التعافي الاقتصادي والاجتماعي والانتقال نحو السلام في سياقات ما بعد انتهاء النزاع. وقد أثبت التاريخ فشل هذه الرؤية إذ لا يزال مصير الكثيرين/ات حول العالم مجهولاً حتى هذه اللحظة. ولكن عند إنشاء آلية دولية ذات اختصاص عالمي سيبقى الشرطان المتعلقان بمصير المختفين\ات وحق المعرفة محميان حتى بعد توقيع اتفاقية سلام بسبب توفر الموارد والاستراتيجيات الخاصة بذلك. وهذا بدوره يضمن إحلال السلام واستدامته لوقت طويل بعد انتهاء النزاع.
التحديات والفرص فيما يتعلق بالآلية في ضوء الواقع السياسي القائم حالياً:
يمكن لآلية ما -بطبيعة الحال- أن تضع خططاً واستراتيجيات، وأن تقوم بمسح وتحديد المواقع المعروفة والمحتملة كأماكن احتجاز مستخدمة من قبل جميع أطراف النزاع، وأن تعثر على المواقع والخرائط وصور الأقمار الصناعية وأماكن الدفن الفردي والجماعي المعروفة وغير المعترف بها، وأن تجمع البيانات والأدلة والشهادات ومقارنتها ببعضها وتحليلها بهدف الكشف عن مصير المختفين\ات.
لقد جُمعت أغلب البيانات في سوريا بهدف تحديد هوية مرتكبي هذه الجرائم ومحاسبتهم، بيد أنه لم تتم معالجة أية معلومات أو طرح أية أسئلة من شأنها أن تساعد في الكشف عن مصير المختفين/ات. فقد تم، على سبيل المثال، استجواب الشاهد الشهير في محاكمة “كوبلنز” المعروف باسم “حفار القبور” لأغراض المساءلة وتحديد الجرائم ومرتكبيها بينما لم تّبذل أية جهود للحصول على ما في حوزته من معلومات تتعلق بأماكن القبور الجماعية وأبعادها وغير ذلك من تفاصيل ما بعد الوفاة ذات الأهمية الحاسمة في عملية تحديد هوية الرفات. وعلى نفس المنوال، لم يتم على الإطلاق استجواب عناصر تنظيم الدولية المحتجزين/ات لدى قوات سورية الديمقراطية أو أولئك اللذين/اللواتي تمَ إعادتهم/ن إلى بلدانهم/ن الأصلية لاستخلاص أية معلومات منهم/ن من شأنها أن تكشف عن مصير المختفين/ات على يد التنظيم.
ومن المؤمل أن تستطيع الآلية، باستخدام الضغط المناسب على جميع الجهات الفاعلة في سوريا، الوصول إلى كافة المقابر الجماعية وجميع مراكز الاحتجاز المعلنة والسرية التابعة لجميع أطراف النزاع كي يتسنى لها الكشف عن مصير من لا زال حياً من الأشخاص الذين تم إخفاؤهم/ن قسراً وتحديد هوية رفات المتوفين/ات منهم/ن وتسليمها لذويهم/ن.
وحتى في حال لم تتمكن الآلية من القيام بعملها مباشرة على الأراضي السورية، فإنها ستظل قادرة على العمل من خارج البلاد وتوفير بعض الإجابات عن أسئلة عائلات المختفين/ات قسراً. وسيشكّل وجود هذه الآلية بحد ذاته عامل ضغط على مختلف الأطراف المشاركة في العملية السياسية من أجل السماح لها بدخول الأراضي السورية طالما وكلما كان ذلك ممكنا. والأمر الأهم هو أن وجود الآلية سيكفل للضحايا السوريين/ات حق في المعرفة والحقيقة وسيضمن عدم نسيان هذا الحق أو تهميشه عند انتهاء النزاع.